[color=darkblue][size=18]الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)
1 - الم
- 2 - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
{ الم } اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال : هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال بعضهم : هي أسماء السور قال الزمخشري : وعليه إطباق الأكثر وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته فالألف مفتاح اسم ( الله ) واللام مفتاح اسمه ( لطيف ) والميم مفتاح اسمه ( مجيد ) وقال آخرون : إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا ل ( إعجاز القرآن ) وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها حكاه الرازي عن المبرد وجمع من المحققين وحكاه القرطبي عن الفراء وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر وإليه ذهب الإمام ( ابن تيمية ) وشيخنا الحافظ ( أبو الحجاج المزي )
قال الزمخشري : ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي الصريح في أماكن وجاء منها على حرف واحد مثل { ص } وحرفين مثل { حم } وثلاثة مثل { الم } وأربعة مثل { المص } وخمسة مثل { كهيعص } لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك
قال ابن كثير : ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الإنتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل : { ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه } { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق } { المص كتاب أنزل إليك } { الم كتاب أنزلناه إليك } { الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه } { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر
{ ذلك الكتاب } قال ابن عباس : أي هذا الكتاب . والعرب تعارض بين أسمي الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر وهذا معروف في كلامهم . والكتاب : القرآن ومن قال : إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به . والريب : الشك أي لا شك فيه روي ذلك عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافا
وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل :
بثينة قالت : يا جميل أربتني ... فقلت : كلانا يا بثين مريب
واستعمل أيضا في الحاجة كما قال بعضهم :
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا
والمعنى : إن هذا الكتاب ( القرآن ) لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى : { تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } وقال بعضهم : هذا خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه . وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } وقال : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأرباب كما قال تعالى { وهدى ورحمة للمؤمنين } قال السدي : { هدى للمتقين } يعني نورا للمتقين وعن ابن عباس : المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله وقال الحسن البصري : اتقوا ما حرم عليهم وأدوا ما افترض عليهم . وقال قتادة : هم الذين نعتهم الله بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } واختيار ابن جرير أن الأية تعم ذلك كله وهو كما قال . وفي الحديث الشريف : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما بأس به حذرا مما به بأس " ( رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي : حسن غريب )
ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان وهذا لا يقد على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت } وقال : { ليس عليك هداهم } وقال : { من يضلل الله فلا هادي له } ويطلق ويراد به بيان الحق والدلالة عليه قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } وقال : { ولكل قوم هاد } وقال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }
وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها ( وقوى ) من الوقاية قال الشاعر :
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كف معصم
وسأل عمر ( أبي بن كعب ) عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال : بلى قال : فما عملت ؟ قال : شمرت واجتهدت قال : فذلك التقوى وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :
خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ... ض ( أرض ) الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى
وفي سنن ابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله " ( رواه ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه )الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)
3 - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
الإيمان في اللغة يطلق على التصديق المحض كما قال تعالى { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } وكما قال اخوة يوسف لأبيهم : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا عملا هكذا ذهب أكثر الائمة وحكاه الشافعي وأحمد إجماعا : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ومنهم من فسره بالخشية : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } والخشية خلاصة الإيمان العلم : { إنما يخشى الله من عباده العلماء }
وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه فقال أبو العالية : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وجنته ولقائه وبالحياة بعد الموت فهذا غيب كله . وقال السدي عن ابن عباس وابن مسعود : الغيب ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن . وقال عطاء : من آمن بالله فقد آمن بالغيب . فكل هذه متقاربة في معنى واحد والجميع مراد
روى ابن كثير بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال : " كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ : { الذين يؤمنون بالغيب - إلى قوله - المفلحون ( رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم : وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) } وفي معنى هذا الحديث ما رواه أحمد عن ( ابن محيريز ) قال : قلت لأبي جمعة حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثا جيدا : " تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله : هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال : نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " ( رواه أحمد عن أبي جمعة الأنصاري وله طرق أخرى ) وفي رواية أخرى عن صالح بن جبير قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذ ( رجاء بن حيوة ) رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الإنصراف قال : إن لكم جائزة وحقا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعنا معاذ ابن جبل عاشر عشرة - فقلنا يا رسول الله : هل من قوم أعظم منا أجرا ؟ آمنا بك واتبعناك قال : " ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا أولئك أعظم منكم أجرا " ( رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن صالح بن جبير عن بي جمعة )
وقوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } قال ابن عباس إقامة الصلاة : إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها . وقال قتادة : إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء قال الأعشى :
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
وقال الأعشى أيضا :
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول : عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي . وهذا ظاهر ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود بشروطها المعروفة وصفاتها المشهورة
{ ومما رزقناهم ينفقون } قال ابن عباس : زكاة أموالهم . وقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة . وقال قتادة : فأنفقوا مما أعطاكم الله هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات . قال ابن كثير : كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والإبتهال إليه ودعائه والتوكل عليه والانفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب فكل من النفقات الواجبه والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون }والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)
4 - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
قال ابن عباس : يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم { وبالآخرة هم يوقنون } أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان وإنما سميت ( الآخرة ) لأنها بعد الدنيا . وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير :
أحدها : أن الموصوفين أولا هم الموصوفون ثانيا وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب
والثاني : هم مؤمنو أهل الكتاب وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات كما قال تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } فعطف الصفات بعضها على بعض
والثالث : أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب والموصوفون ثانيا بقوله : { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } هم مؤمنو أهل الكتاب واختاره ابن جرير ويستشهد بقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } وبقوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين } وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها " ( رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري )
قلت : والظاهر قول مجاهد : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآياتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي من إنسي وجني وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول وما جاء به من قبله من الرسل والإيقان بالآخرة كما أن هذا لا يصح إلا بذاك وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } وقال تعالى : { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد } وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } الآيةأولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)
5 - أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
يقول تعالى : { أولئك } أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول والإيقان بالآخرة { على هدى } أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى { ولأولئك هم المفلحون } أي في الدنيا والآخرة وقال ابن عباس { على هدى من ربهم } أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به { وأولئك هم المفلحون } أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما هربواإن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)
6 - إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
يقول تعالى : { إن الذين كفروا } أي غطوا الحق وستروه سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به كما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الإليم } أي إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبلغهم الرسالة فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا يهمنك ذلك { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب }
وعن ابن عباس في قوله { إن الذين كفروا } الآية قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول
وقوله تعالى : { لا يؤمنون } جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفار في كلا الحالينختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)
7 - ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم
{ ختم الله } أي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم { وعلى أبصارهم غشاوة } فلا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون . قال مجاهد : الختم : الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال : { بل طبع الله عليها بكفرهم } وفي الحديث " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك "
قال ابن جرير : وقال بعضهم : إن معنى قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال : فلان أصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا قال : وهذا لا يصح لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم . قلت : وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير ههنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدا وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليه قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده . ولو فهم قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقوله : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحا بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح - فلو أحاط علما بهذا لما قال ما قال
قال ابن جرير : والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " ( رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة وقال الترمذي : حسن صحيح . ومعنى استعتب : رجع عن الإساءة وطلب الرضى . كذا في النهاية لابن الأثير . ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره الله في قوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعيه والظروفومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9)
8 - ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
- 9 - يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون
لما تقدم وصف المؤمني في صدر السورة بأربع آيات ثم عرف حال الكافرين بآيتين شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق كما أنزل سورة " براءة " وسورة " المنافقين " فيهم وذكرهم في سورة " النور " وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها أيضا فقال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله . . } الآيات
والنفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر وهو أنواع : اعتقادي : وهو الذي يخلد صاحبه في النار وعملي : وهو من أكبر الذنوب لأن المنافق يخالف قوله فعله وسره علانيته وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع لذلك فساد عريض من عدم الإحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خيرا فقال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } أي يقولون ذلك قولا كما قال تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم بقوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } وفي اعتقادهم بقوله : { وما هم بمؤمنين }
وقوله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا } أي بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذلك نافعهم عنده وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } أي ما يغرون بصنيعهم هذا إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } ومن القراء من قرأ : ( وما يخادعون ) وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحدفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)